الاثنين، 5 أكتوبر 2009

المسرح بالمغرب
فؤاد ازروال


مقدمــــة

يعتبر العديد من الدارسين سنة 1923 البداية الأولى لتعرف المغاربة على فن المسرح، ومبررهم في ذلك أنه في هذه السنة تمت " بداية الاتصال بين المسرح المشرقي والتمثيل المغربي، ومما يثير الانتباه في هذا الاتصال أنه اتسم بحماس كبير لا نجد له نظيرا إلا في التجمعات التي يهيئها اللقاء المسرحي " ، وذلك لما زارت فرقة محمد عزالدين المغرب، وقامت بجولة في مدنها وحواضرها. وبعدها ، وفي السنة نفسها، تقدم فرقة الشاذلي بن فريحة التونسية إلى المغرب، وتقوم أيضا بجولة فنية في ربوع البلاد . وفي سنة 1924 تفد فرقة الفنان المصري الشهير سلامة حجازي وتلقى ترحابا واسعا واستقبالا حارا.
وكان من نتيجة هذه الزيارات المسرحية القادمة من المشرق تعرف المغاربة لأول مرة على فن المسرح من جهة، و انبثاق النشأة الحقيقية للمسرح المغربي من جهة ثانية ، حيث ظهر العديد من الجمعيات و الفرق المسرحية بمدن مختلفة كطنجة وفاس والرباط و مراكش ... لاسيما بالمدارس و الثانويات التي أنتجت بها أولى النصوص والعروض.

وهناك من الدارسين من يذهب غير هذا المذهب ، فيرى بأن البداية الحقيقة لاتصال المغاربة بفن المسرح كان بمنطقة الشمال ، وبخاصة طنجة ، حيث تم تأسيس أول بناية مسرحية ، وهي "مسرح سيرفانتيس" سنة 1913 ، وكان أول نشاط مسرحي مغربي و أول نص درامي هو " أهل الكهف" الذي كتبه ابازاكور عام 1920 .
وهناك من يرى أن المغاربة تعرفوا إلى هذا الفن مع قدوم أول حاشيات الاستعمار سنة 1912 ، لما استقدمت هذه الحاشيات معها ما تروح به عن نفسها من الفنون و وسائل الترفيه ، ومن ضمنها المسرح. فقد كانت تقدم العروض المسرحية والتمثيليات المختلفة في مختلف المدن التي تتواجد بها الحاليات الأجنبية . ويرى أصحاب هذا الرأي أنه وإن كانت هذه العروض تقدم للأجانب فقط ، ولا يسمح للمغاربة من حضورها و مشاهدتها ، فإنها ـ مع ذلك ـ أثرت في نخبة من المغاربة ، و جعلتهم يتعرفون ، ولو بشكل أولي ، إلى مفاهيم هذا الفن و عناصره ، و هيأتهم للاستفادة من أول فرصة تتاح لهم لاحتضانه ، والتي تمثلت في قدوم الفرق المشرقية بدءا من سنة 1923.
وغير بعيد من منطق هذا الرأي الأخير، يتساءل أحد الباحثين المغاربة إن كان أول لقاء للمغاربة مع فن المسرح يرجع إلى سنة 1860 التي احتل فيها الإسبان مدينة تطوان ، وإن كان يرى بأن المسرح الذي يكون قد ظهر في هذه الفترة بهذه المدينة ليس مغربيا باعتبار أن القائمين عليه كانوا إسبانيين وكان موجها للجالية الإسبانية فقط .

و الحقيقة ، أن كل هذه الآراء لا تؤرخ إلا لبداية النشاط المسرحي بالمغرب في العصر الحديث ، لأن اتصال المغاربة بفن المسرح قد تم قبل هذه التواريخ جميعا بفترة زمنية بعيدة جدا ، فترة زمنية تعود إلى العصور التي عرف فيها المغاربة اتصالا ثقافيا وحضاريا مع ثقافات وحضارات الإغريق والرومان والبزنطيين. إلا أنه (هذا الاتصال ) لم يحظ بعناية خاصة ولم يلتفت إليه بما يكفي من البحث والدرس.
و أول ما يتأكد منه أي متصفح للكتب التاريخية أو باحث في مختلف أوجه الحضارة بالمغرب في فترة ما قبل الإسلام، هو أن المغاربة القدامى قد عاينوا فن المسرح، وأنهم وفروا له بنايات أقاموها في مراكز المدن ، و أنهم ألفوا فيه إبداعا ودراسة.
فكيف عرف الأمازيغ المسرح ؟

الأمازيغ القدامى : الفنون و الآداب

من الثابت تاريخيا أن الملوك الأمازيغ القدامى، قد عملوا على استقدام الفنانين والأدباء والعلماء إلى ممالكهم ، وخصوهم بعناية كبرى ، و عهدوا إليهم بتأديب الأمراء وتربيتهم...فاحتكت بهم نخبة من المغاربة و أخذت عنهم وحاورتهم . وخير مثال على ذلك، الملك ماسينيسا الذي استقدم إلى عاصمته " قيرطا" زمرة من مثقفي وفناني الإغريق، والذين عنهم تعلم الملك المثقف "يوبا الثاني" الذي نبغ في مختلف العلوم والفنون ، و أهتم كثيرا بفن المسرح وألف فيه كتابا......
وأيضا، عرف المغرب القديم ، إيفاد بعثات علمية إلى العواصم الغربية القديمة كأثينا وروما، من أجل التحصيل في مجالات العلوم والسياسة و الفنون والآداب ، واستقدموا أيضا العديد من الأساتذة و الدارسين الذين كانوا يؤدبون ويعلمون أبناء الملوك و الخاصة ، ويلقون الدروس في الأماكن العمومية.
و تثبت العديد من المدن المغربية القديمة التي تحتوي على الأبنية المسرحية، أن المغاربة القدامى " قد انبهروا ولا شك، بأسلوب الحياة الرومانية بطقوسهم في التسلية ، ومنها التمثيل المسرحي. وعلاوة على ذلك ، فإننا نعرف من جهة أخرى أن جل المدن المغربية الرومانية تحتوي على ( كابيتول أي المعبد) وعلى ( المسرح) ، وبدون شك ، فإن هذا المسرح كانت تمثل فيه روايات تكتب تارة باللغة الرومانية ، وتارة أخرى باللغة القومية و باللهجة العامية ، و إن هذه الروايات التي تتردد بين الجودة و الضعف كانت هزلية تشوق الطبقة الشعبية ، بما تشمل عليه من هزليات ومواعظ و ألوان من الفلكلور المحلي ، وكانت قوية ، بما تشمل عليه من فن رفيع مقتبس عن الأدب الروماني."
وساهم الأمازيغ القدامى ، في عهدي الفينيقيين و الرومانيين ، في إثراء آداب وفنون هاتين الأمتين بإنتاجات مختلفة ، لا سيما في المسرح ، إذ ظهر كتاب مسرحيون أبدعوا في هذا المجال و شاركوا في التظاهرات و المسابقات التي كانت تقام بالعواصم ، وتفوقوا فيها وحازوا على جوائز مهمة.

1 - مقتطفات للتحليل و الآستدلال.
" الأمازيغ معروفون بتدينهم الشديد ، و تقديسهم لمظاهر الطبيعة و الكون ن وكان هذا التقديس " يقرن بألوان من الطقوس تتميز في الغالب بتراتيل و أناشيد معينة ، يكاد في حركاته و حلقاته يقترب من المسرح ، كما يقرن بصناعة الدمى و التماثيل واتخاذ الأقنعة والرسوم"
" كما أنهم عرفوا المسرح على الطريقة اليونانية" مستشهدا بالمدن التي كانت تشمل على فضاءات مسرحية كمدينة وليلي.
قال أبوليوس " أعترف بأني أوثر من بين الآلات شق القصب البسيط أنظم به القصائد في جميع الأغراض الملائمة لروح الملحمة أو فيض الوجدان لمرح الملهاة أو جلال المأساة ، وكذلك لا أقصر على الهجاء ولا في الأحاجي ، ولا أعجزعن مختلف الروايات و الخطب يثني عليها البلغاء ، والحوارات يتذوقها الفلاسفة . ثم ماذا بعد هذا كله ؟ إنني أنشئ في كل ذلك باليونانية أم باللاتينية بنفس الأمل ونفس الحماس ونفس الأسلوب"


" كانت مواد التدريس تنحصر فقط في الأدب الإغريقي، و نحو اللغة الإغريقية و الريطوريقا و السفسطة و الرسم و النحت و الموسيقى و الرقص . وكانت هذه الدروس تعطى إما على شكل دروس خاصة بالمنازل أو على شكل دروس جماعية بأمكنة عامة " واستمر هذا التقليد مع الومان باللغة الرومانية في نظام التعليم الثانوي " يقوم الأستاذ النحوي أيضا بتلقين بعض مبادئ في العلوم العقلية مثل الرياضيات و الهندسة و الحساب و الموسيقى وعلم الفلك ، ثم يضيف مادتيفني المسرح و الفيلولوجيا "
وكان الملك يوبا الثاني في مقدمة هؤلاء الكتاب الأمازيغيين الإغريقفونيين . فألف في الجغرافيا و التاريخ والنحو والمسرح . ويمكن اعتباره أول ناقد و مؤرخ للمسرح في الفكرالمغاربي على الإطلاق "
ترنتيوس فرن 2 قبل الميلاد "أديب ومسرحي أمازيغي ، ازداد بقرطاج حوالي 195 ق,م(.......) ، ورغم قصر عمره (36 سنة) فإنه أنتج ست مسرحيات، ما بين 166 ق,م و 160 ق,م "

الخميس، 1 أكتوبر 2009


الأدب الامازيغي ومداخل الحداثة

فؤاد ازروال


مما لاشك فيه أن أدبا جديدا في الثقافة الامازيغية بدأ يتشكل ويتنامى, وبدأ يخلق لنفسه آفاقا مغايرة تحت تأثير دينامية الحركة الثقافية الامازيغية ونشاطها من أجل التعبير عن ذاتها وتأكيدها وتطوير آلياتها وأدواتها في الاشتغال, ومن أجل المساهمة في الإجابة على الأسئلة التشكيكية في قدرة اللغة الامازيغية على مسايرة العصر والتعبير عن روحه واستلهام فنونه ومواضيعه.
وينزع هذا الأدب الجديد نحو بناء قيم فنية وجمالية حديثة, ونحو الإمساك بمواضيع وتيمات محلية ممتدة في العمق الإنساني, ونحو تنويع فنونه وفروعه بالمزج بين قديمها وجديدها, وذلك من خلال التفاعل والاحتكاك بالآداب العالمية المعاصرة والاستفادة من امتداداتها المختلفة, وبدافع التحدي لكل المواقف المشككة والآراء المغرضة في حق إمكانيات
التراث الامازيغي في التطور و الانفتاح و النمو.
فقد أصبح العديد من المبدعين الشباب يجتهدون للخروج عن المنحى المألوف في كتاباتهم داخل المنظومة الأجناسية التقليدية في الأدب الشفوي الأمازيغي، ويحاولون كذلك، التجاوب مع أصداء الحساسيات والتيارات العالمية التي تتأسس عليها قوالب وأنماط الكتابة الأدبية المعاصرة. وبدأوا ـ أي هؤلاء الأدباء الشباب ـ ينزعون أكثر فأكثر نحو طلب الجدة والمغايرة تحت وطأة التغيرات الاجتماعية والثقافية التي يستشعرونها من حولهم، وبدأوا يدركون أن استمرارية الأدب الأمازيغي وديمومته يكمن في الاشتغال على داخل النسقية الجدلية التي يحركها تصادم الأجيال وتصارع السابق والحاضر.
والحقيقة أن هذا الأدب لازال قيد التشكل، ولازال يبني ملامحه ومقوماته ويصعد أولى درجات الحضور داخل السوق الثقافية المغربية، فالتراكم الذي حققه لحد الآن ـ ومنذ ثمانينيات القرن الماضي ـ لازال يسعى إلى أن يجعله( أي الأدب) ينتظم ضمن تجربة نشيطة وواسعة، بالرغم من الطموح والحماس اللذين يتميز بهما كل المبدعين والأدباء الامازيغيين في هذا المجال..إلا أنه ـ أي الأدب الامازيغي الجديد ـ قد خلق لنفسه مداخل عديدة ستلج به فضاء الحداثة مستقبلا، وستعجل بخطاه نحو المعاصرة.
وتتأسس هذه المداخل على مبادرات أدبية وثقافية متنوعة المشارب والجذور ومتعددة الأهداف والغايات، فهي مزيج من الطروحات والتصورات المعاصرة التي تتقاطع فيه عناصر النظريات النقدية والإبداعية الحديثة بالمغرب والغرب و عناصر الرؤية (الخصوصية الثقافية ) التي ترتكز على الماجد والمنير في تراثنا.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا ( الأدب الجديد) وإن كان يسعى إلى الانفتاح على الثقافة الإنسانية العالمية، فإنه يتخذ من الثقافة المحلية الوطنية أساسه في قياس التطور والتغير، وفي الموازنة بين العراقة والمعاصرة. ويستثمر ـ ما أمكنه ذلك ـ جوانب الجاذبية في تراثها العام الذي تعج بالعجائبي والغرائبي والواقعي الخيالي.. وبتنوع أنماط الحكي والأداء الشعري و التشخيص الفني.

ويمكن تركيز أهم هذه المداخل في:
1 ـ الكتابة والتدوين:
حتم الانتقال الذي يحدث راهنا من الشفاهة إلى الكتابة على الأعمال الأدبية إعادة النظر في الخصائص الفنية والإبداعية التي تقوم عليها, حيث أن وعيا تشكل لدى أصحابها بأن الكتابة تتوجه إلى متلق مختلف, متلق أكثر دراية وإطلاعا و أكثر تطلعا إلى الجدة والإتقان, وأنها ( أي الكتابة ) تمنح القارئ فرصة العودة إلى العمل للمساءلة والبحث والتقييم.
وانطلاقا من هذا الوعي الجديد الذي فرضته التغيرات والتبدلات السياقية للإنتاج الأدبي الامازيغي سيبدأ المبدع في التفكير" الواعي" و"المهموم " بأدواته وتقنياته, والتفكير في عمله باعتباره جزءا من مشروع عام في مجال تطوير الأدب والثقافة الامازيغيين , مما
2
يحسسه بمسؤولية دافعة و محفزة من ناحية وداعية إلى البحث والاجتهاد من ناحية أخرى. فتظهر, بذلك, أولى مؤشرات التحول نحو " الحداثة " .
وتجلت مظاهر هذا التحول, بصورة واضحة, في الإبداع الشعري الذي عرف خروجا ملحوظا على الأعراف التقليدية في بناء القصيدة الامازيغية وفي أنماطها وعناصرها, حيث تم الانزياح عن معايير الإيقاع المعروفة وحدود العلائق المضبوطة في استعمال الصور والرموز والمعجم وفي ارتباط اللغة والمعنى بالواقع المادي المحسوس.... وغيرها.
و قد أضحى هذا الشعر, مثلا, يعتمد مختلف وسائل الإيقاع الداخلي ويوغل في استعمال الصور والرموز المعبرة, ويتوسل الأساطير والخرافات في التعبير والإفصاح, ويسعى إلى خلق لغاته الخاصة. وأصبح مضمونها يقارب الانشغالات اليومية للإنسان المغربي ومكابداته المعيشية والنفسية والثقافية, وازداد إصرارا على "الالتزام " وانشدادا إليه.
ومثلما حدث في الشعر, بدأت طلائع التغيير تتكون في مجال السرد أيضا, فأصبحت الحكاية التي تكتب تأخذ مسافة فارقة عما كانت عليه في الشفاهة،وبدأت الشخصيات تأخذ ملامح جديدة وتقنيات الحكي تتنوع وتغتني, وبدأت تتطور إلى أشكال سردية أخرى وافدة من الثقافة العالمية كالقصة والمسرح او توظف أدواتها وآلياتها...

هكذا هبت المحاولات الأولى للتدوين والكتابة برياح تنبئ بالتجديد وتعد بالتغييرات في أدبنا الامازيغي الراهن, وذلك بما تحمله من اشتراطات وما خلقته من اعتبارات وظروف, وبما استلزمته من وعي ومسؤولية بسياقات "الكتابة" الأدبية وخصائصها.
2 ـ تنويع الأجناس الأدبية:
انضافت إلى الأدب الامازيغي في الآونة الأخيرة أجناس أدبية جديدة وافدة من الثقافة الإنسانية العالمية, وساهم في ظهورها اهتمام" الصحافة الامازيغية" بها ورهان الحركة الامازيغية عليها في صراعها الثقافي و التفكير العام في التوجه نحو الكتابة والتدوين.
فكثير من الجرائد والمجلات الخاصة بالثقافة الامازيغية وبعض الصحف الوطنية خصت الإبداع الأدبي الامازيغي لدى الشباب بصفحات متفردة, وشجعتهم على الاهتمام بالأنواع والفنون الجديدة وعلى المبادرة في ترسيخها وتثبيتها في المشهد الأدبي داخل حقل الثقافة الامازيغية.
وساهمت العديد من الجمعيات والهيئات الثقافية الامازيغية, بالمغرب وخارجه, في توسيع دائرة الإنتاج في مختلف الأجناس الأدبية الجديدة, إذ خصت أنواعا منها بمسابقات وخصت أخرى بمناسبات ومحافل و غيرهما بأيام ومهرجانات..الخ . فظهرت مسابقات في الإبداع الروائي والقصصي وفي ترجمتهما, و مهرجانات المسرح والقراءات الأدبية, وجلسات وموائد للدراسة والنقد..
ومن العوامل التي شاركت, أيضا وكما أسلفنا الذكر, في توجيه الاهتمام إلى الإبداع داخل الأجناس الأدبية الجديدة ظهور بدايات الكتابة التي ترتبط ارتباطا أساسيا ببعض أنماط الإبداع الأدبي والفني لا تتحقق إلا بالقراءة.
ومن أهم هذه الأجناس الأدبية الجديدة الوافدة فنون السرد المختلفة كالقصة والأقصوصة والرواية والمسرح, هذه الأجناس التي وجدت مشابهات لها في التراث القديم
3
مجسدة في الحكايات الشعبية, ووجدت مبدعين يمتلكون دراية كافية بتقنيات الكتابة السردية, و صحفا مهتمة مما يسر من الإنتاج في هذا "الاتجاه الفني الأدبي " والاستمرار فيه فأعطى إبداعات متواترة في مختلف مناطق البلاد.
وبدأت, أيضا, تظهر بوادر العمل في مشروع ترجمة الأعمال الروائية والقصصية المغربية والعالمية التي يمكن للثقافة الامازيغية استيعابها والاستفادة منها. ولاشك أن تنفيذ هذا المشروع سيغني الأدب الامازيغي و سيفتح أمامه أفاقا جديدة تقربه من التجربة الإنسانية الكونية في الإبداع الأدبي.
وكانت بلدان المهجر المكان الأنسب والأول لهذه البدايات وامتداداتها, ففيها ظهرت أولى الأعمال القصصية والروائية أواسط التسعينات, لاسيما بهولنده التي بادر عدد من المغاربة المقيمين بها الى نشر بعض إنتاجاهم مستفيدين من التسهيلات والتشجيعات المقدمة لهم من لدن مؤسسات وهيئات متعددة.
3 ـ تحديث التراث الأدبي:
عاد كثير من المبدعين إلى الإنتاج داخل حقل الأدب التقليدي بإحياء أنماطه وأشكاله, فاهتموا بالحكاية والأمثال والشعر... لكن برؤية مغايرة وجديدة تتجاوز مواقف الفلكرة والتضييق, برؤية تبحث عن الجوهري والأصيل وتقبض عليهما لأجل إعادة صياغتهما وما يلائم العصر ووفق قوالب جديدة تسهل عمليات التفاعل والاستجابة.
وكثير من المبدعين عادوا إلى الحكايات الشعبية وجعلوا منها قصصا تربوية تتوجه إلى الأطفال الصغار, أو مواضيع معبرة في الأعمال المسرحية والدرامية, أو قصصا فنية للقراءة. وكثير منهم عادوا إلى أشكال الشعر القديمة وخصصوا لها محافل ومناسبات قصد توسيع استهلاكها ونطاق انتشارها واستعمالها كأدوات ووسائل لنشر الوعي والمعرفة...
وهذه التوظيفات الجديدة لأشكال الأدب القديم فرضت تحويرات وتغييرات تستمد منها أسباب الاستمرار والبقاء, وتضفي عليها ملامح جديدة تسمح لها بالتطور واللحاق بركب الفنون التعبيرية الحديثة, وتنزعها من "متاحف الفلكلور " التي تضيق من أبعاد الرؤية إليها.
وبدأت عملية العودة إلى التراث بإحياء الإبداعات القديمة باعتبارها إحدى التجليات الأساسية للهوية الامازيغية وبإعادة نشر الوجوه المشرقة والمعبرة فيه, وذلك بانتقاء ما يتماشى منها وروح العصر في المضمون والشكل معا. ثم إعادة تشكيل هذه العناصر داخل قوالب فنية وافدة أو تضمينها كنصوص خلفية داخل الانتاجات المعاصرة.
وتم الاعتماد كثيرا على هذا التراث من أجل تدبير عملية الانتقال من الشفاهة إلى التدوين لأنه يوفر مادة وفيرة من شأنها تيسير المجهودات على المبدعين وتوفير ميادين الاشتغال الأدبي. وبذا نجد عناصر هذا التراث في جل الإبداعات الأدبية على اختلاف أشكالها وأجناسها ومضامينها.

4 ـ ظهور البدايات النقدية:
رافقت ظهور هذا الأدب الجديد إرهاصات حركة نقدية تحاول تتبعه في إطاره العام, وتحاول رصد ملامحه وتوصيفها ومقاربتها بأدوات منهجية حديثة, فساهمت
4
بذلك في الدفع نحو التجديد والتغيير والاغناء, لاسيما وأن الطابع العام لهذه الإرهاصات يتميز بالتنظير ذي البعد التوجيهي.
وتحضر هذه الإرهاصات ـ في الغالب ـ في المناسبات والمحافل التي تخصص لدراسة الأدب الامازيغي أو لأحد فنونه أو أغراضه أو قضاياه, أو تخصص للاحتفاء بالإبداع والمبدعين. كما تحضر ـ من حين لآخر ـ في الصحف الامازيغية أو الكتب الخاصة بالثقافة الامازيغية.
وأهم ما يميز هذه البدايات النقدية أنها تنطلق من نتائج المناهج والتيارات النقدية الحديثة والمعاصرة وتعتمد أدواتها وتصوراتها, وهذا يضغط في اتجاه الإبداع وفق المعايير الحداثية وبطرائق وتقنيات معاصرة, وستظهر نتائج هذا التوجه أكثر حينما تترسخ هذه الإرهاصات وتتحول إلى حركة منظمة ومنتظمة.
وتتميز هذه البدايات النقدية, أيضا, بأنها متابعات آنية لما يتم نشره مما يشعر المبدعين بوجود اهتمام بأعمالهم، وهذا يشجعهم على الاستمرار والبحث عن التجويد والتجديد من ناحية, ويحفزهم على إعادة النظر في التراكم الذي تحقق من قبل من ناحية أخرى.
وتبقى أهم مهمة يمكن أن تقدمها هذه المتابعات النقدية للأدب الامازيغي الجديد هي بلورة تصورات واضحة وشفافة حول تدبير مرحلة الانتقال من حال الشفاهة والتقليد إلى حال التدوين والتجديد انطلاقا من مشروع يمزج بين خصائص التراث وأسس الفكر الحديث. كما تبقى أهم محطة هي التحول إلى حركة نشيطة لها أسسها ومفاهيمها وأهدافها وانتشارها ليكون تأثيرها في تحديث الأدب مقبولا وفعالا.

عموما إن حركية الأدب الامازيغي الجديد قد خلقت لنفسها مداخل أساسية ومتعددة ستمنحها خاصيات الجدة والحداثة, هذه الخاصيات التي بدأت تظهر في مختلف مناحي الإبداع والتي بدأت تتنامى وتتطور. وإنها تحتاج إلى الاهتمام والمتابعة القريبين حتى تصبح تجربة مكتملة العناصر والمقومات.

فؤاد ازروال