الخميس، 1 أكتوبر 2009


الأدب الامازيغي ومداخل الحداثة

فؤاد ازروال


مما لاشك فيه أن أدبا جديدا في الثقافة الامازيغية بدأ يتشكل ويتنامى, وبدأ يخلق لنفسه آفاقا مغايرة تحت تأثير دينامية الحركة الثقافية الامازيغية ونشاطها من أجل التعبير عن ذاتها وتأكيدها وتطوير آلياتها وأدواتها في الاشتغال, ومن أجل المساهمة في الإجابة على الأسئلة التشكيكية في قدرة اللغة الامازيغية على مسايرة العصر والتعبير عن روحه واستلهام فنونه ومواضيعه.
وينزع هذا الأدب الجديد نحو بناء قيم فنية وجمالية حديثة, ونحو الإمساك بمواضيع وتيمات محلية ممتدة في العمق الإنساني, ونحو تنويع فنونه وفروعه بالمزج بين قديمها وجديدها, وذلك من خلال التفاعل والاحتكاك بالآداب العالمية المعاصرة والاستفادة من امتداداتها المختلفة, وبدافع التحدي لكل المواقف المشككة والآراء المغرضة في حق إمكانيات
التراث الامازيغي في التطور و الانفتاح و النمو.
فقد أصبح العديد من المبدعين الشباب يجتهدون للخروج عن المنحى المألوف في كتاباتهم داخل المنظومة الأجناسية التقليدية في الأدب الشفوي الأمازيغي، ويحاولون كذلك، التجاوب مع أصداء الحساسيات والتيارات العالمية التي تتأسس عليها قوالب وأنماط الكتابة الأدبية المعاصرة. وبدأوا ـ أي هؤلاء الأدباء الشباب ـ ينزعون أكثر فأكثر نحو طلب الجدة والمغايرة تحت وطأة التغيرات الاجتماعية والثقافية التي يستشعرونها من حولهم، وبدأوا يدركون أن استمرارية الأدب الأمازيغي وديمومته يكمن في الاشتغال على داخل النسقية الجدلية التي يحركها تصادم الأجيال وتصارع السابق والحاضر.
والحقيقة أن هذا الأدب لازال قيد التشكل، ولازال يبني ملامحه ومقوماته ويصعد أولى درجات الحضور داخل السوق الثقافية المغربية، فالتراكم الذي حققه لحد الآن ـ ومنذ ثمانينيات القرن الماضي ـ لازال يسعى إلى أن يجعله( أي الأدب) ينتظم ضمن تجربة نشيطة وواسعة، بالرغم من الطموح والحماس اللذين يتميز بهما كل المبدعين والأدباء الامازيغيين في هذا المجال..إلا أنه ـ أي الأدب الامازيغي الجديد ـ قد خلق لنفسه مداخل عديدة ستلج به فضاء الحداثة مستقبلا، وستعجل بخطاه نحو المعاصرة.
وتتأسس هذه المداخل على مبادرات أدبية وثقافية متنوعة المشارب والجذور ومتعددة الأهداف والغايات، فهي مزيج من الطروحات والتصورات المعاصرة التي تتقاطع فيه عناصر النظريات النقدية والإبداعية الحديثة بالمغرب والغرب و عناصر الرؤية (الخصوصية الثقافية ) التي ترتكز على الماجد والمنير في تراثنا.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا ( الأدب الجديد) وإن كان يسعى إلى الانفتاح على الثقافة الإنسانية العالمية، فإنه يتخذ من الثقافة المحلية الوطنية أساسه في قياس التطور والتغير، وفي الموازنة بين العراقة والمعاصرة. ويستثمر ـ ما أمكنه ذلك ـ جوانب الجاذبية في تراثها العام الذي تعج بالعجائبي والغرائبي والواقعي الخيالي.. وبتنوع أنماط الحكي والأداء الشعري و التشخيص الفني.

ويمكن تركيز أهم هذه المداخل في:
1 ـ الكتابة والتدوين:
حتم الانتقال الذي يحدث راهنا من الشفاهة إلى الكتابة على الأعمال الأدبية إعادة النظر في الخصائص الفنية والإبداعية التي تقوم عليها, حيث أن وعيا تشكل لدى أصحابها بأن الكتابة تتوجه إلى متلق مختلف, متلق أكثر دراية وإطلاعا و أكثر تطلعا إلى الجدة والإتقان, وأنها ( أي الكتابة ) تمنح القارئ فرصة العودة إلى العمل للمساءلة والبحث والتقييم.
وانطلاقا من هذا الوعي الجديد الذي فرضته التغيرات والتبدلات السياقية للإنتاج الأدبي الامازيغي سيبدأ المبدع في التفكير" الواعي" و"المهموم " بأدواته وتقنياته, والتفكير في عمله باعتباره جزءا من مشروع عام في مجال تطوير الأدب والثقافة الامازيغيين , مما
2
يحسسه بمسؤولية دافعة و محفزة من ناحية وداعية إلى البحث والاجتهاد من ناحية أخرى. فتظهر, بذلك, أولى مؤشرات التحول نحو " الحداثة " .
وتجلت مظاهر هذا التحول, بصورة واضحة, في الإبداع الشعري الذي عرف خروجا ملحوظا على الأعراف التقليدية في بناء القصيدة الامازيغية وفي أنماطها وعناصرها, حيث تم الانزياح عن معايير الإيقاع المعروفة وحدود العلائق المضبوطة في استعمال الصور والرموز والمعجم وفي ارتباط اللغة والمعنى بالواقع المادي المحسوس.... وغيرها.
و قد أضحى هذا الشعر, مثلا, يعتمد مختلف وسائل الإيقاع الداخلي ويوغل في استعمال الصور والرموز المعبرة, ويتوسل الأساطير والخرافات في التعبير والإفصاح, ويسعى إلى خلق لغاته الخاصة. وأصبح مضمونها يقارب الانشغالات اليومية للإنسان المغربي ومكابداته المعيشية والنفسية والثقافية, وازداد إصرارا على "الالتزام " وانشدادا إليه.
ومثلما حدث في الشعر, بدأت طلائع التغيير تتكون في مجال السرد أيضا, فأصبحت الحكاية التي تكتب تأخذ مسافة فارقة عما كانت عليه في الشفاهة،وبدأت الشخصيات تأخذ ملامح جديدة وتقنيات الحكي تتنوع وتغتني, وبدأت تتطور إلى أشكال سردية أخرى وافدة من الثقافة العالمية كالقصة والمسرح او توظف أدواتها وآلياتها...

هكذا هبت المحاولات الأولى للتدوين والكتابة برياح تنبئ بالتجديد وتعد بالتغييرات في أدبنا الامازيغي الراهن, وذلك بما تحمله من اشتراطات وما خلقته من اعتبارات وظروف, وبما استلزمته من وعي ومسؤولية بسياقات "الكتابة" الأدبية وخصائصها.
2 ـ تنويع الأجناس الأدبية:
انضافت إلى الأدب الامازيغي في الآونة الأخيرة أجناس أدبية جديدة وافدة من الثقافة الإنسانية العالمية, وساهم في ظهورها اهتمام" الصحافة الامازيغية" بها ورهان الحركة الامازيغية عليها في صراعها الثقافي و التفكير العام في التوجه نحو الكتابة والتدوين.
فكثير من الجرائد والمجلات الخاصة بالثقافة الامازيغية وبعض الصحف الوطنية خصت الإبداع الأدبي الامازيغي لدى الشباب بصفحات متفردة, وشجعتهم على الاهتمام بالأنواع والفنون الجديدة وعلى المبادرة في ترسيخها وتثبيتها في المشهد الأدبي داخل حقل الثقافة الامازيغية.
وساهمت العديد من الجمعيات والهيئات الثقافية الامازيغية, بالمغرب وخارجه, في توسيع دائرة الإنتاج في مختلف الأجناس الأدبية الجديدة, إذ خصت أنواعا منها بمسابقات وخصت أخرى بمناسبات ومحافل و غيرهما بأيام ومهرجانات..الخ . فظهرت مسابقات في الإبداع الروائي والقصصي وفي ترجمتهما, و مهرجانات المسرح والقراءات الأدبية, وجلسات وموائد للدراسة والنقد..
ومن العوامل التي شاركت, أيضا وكما أسلفنا الذكر, في توجيه الاهتمام إلى الإبداع داخل الأجناس الأدبية الجديدة ظهور بدايات الكتابة التي ترتبط ارتباطا أساسيا ببعض أنماط الإبداع الأدبي والفني لا تتحقق إلا بالقراءة.
ومن أهم هذه الأجناس الأدبية الجديدة الوافدة فنون السرد المختلفة كالقصة والأقصوصة والرواية والمسرح, هذه الأجناس التي وجدت مشابهات لها في التراث القديم
3
مجسدة في الحكايات الشعبية, ووجدت مبدعين يمتلكون دراية كافية بتقنيات الكتابة السردية, و صحفا مهتمة مما يسر من الإنتاج في هذا "الاتجاه الفني الأدبي " والاستمرار فيه فأعطى إبداعات متواترة في مختلف مناطق البلاد.
وبدأت, أيضا, تظهر بوادر العمل في مشروع ترجمة الأعمال الروائية والقصصية المغربية والعالمية التي يمكن للثقافة الامازيغية استيعابها والاستفادة منها. ولاشك أن تنفيذ هذا المشروع سيغني الأدب الامازيغي و سيفتح أمامه أفاقا جديدة تقربه من التجربة الإنسانية الكونية في الإبداع الأدبي.
وكانت بلدان المهجر المكان الأنسب والأول لهذه البدايات وامتداداتها, ففيها ظهرت أولى الأعمال القصصية والروائية أواسط التسعينات, لاسيما بهولنده التي بادر عدد من المغاربة المقيمين بها الى نشر بعض إنتاجاهم مستفيدين من التسهيلات والتشجيعات المقدمة لهم من لدن مؤسسات وهيئات متعددة.
3 ـ تحديث التراث الأدبي:
عاد كثير من المبدعين إلى الإنتاج داخل حقل الأدب التقليدي بإحياء أنماطه وأشكاله, فاهتموا بالحكاية والأمثال والشعر... لكن برؤية مغايرة وجديدة تتجاوز مواقف الفلكرة والتضييق, برؤية تبحث عن الجوهري والأصيل وتقبض عليهما لأجل إعادة صياغتهما وما يلائم العصر ووفق قوالب جديدة تسهل عمليات التفاعل والاستجابة.
وكثير من المبدعين عادوا إلى الحكايات الشعبية وجعلوا منها قصصا تربوية تتوجه إلى الأطفال الصغار, أو مواضيع معبرة في الأعمال المسرحية والدرامية, أو قصصا فنية للقراءة. وكثير منهم عادوا إلى أشكال الشعر القديمة وخصصوا لها محافل ومناسبات قصد توسيع استهلاكها ونطاق انتشارها واستعمالها كأدوات ووسائل لنشر الوعي والمعرفة...
وهذه التوظيفات الجديدة لأشكال الأدب القديم فرضت تحويرات وتغييرات تستمد منها أسباب الاستمرار والبقاء, وتضفي عليها ملامح جديدة تسمح لها بالتطور واللحاق بركب الفنون التعبيرية الحديثة, وتنزعها من "متاحف الفلكلور " التي تضيق من أبعاد الرؤية إليها.
وبدأت عملية العودة إلى التراث بإحياء الإبداعات القديمة باعتبارها إحدى التجليات الأساسية للهوية الامازيغية وبإعادة نشر الوجوه المشرقة والمعبرة فيه, وذلك بانتقاء ما يتماشى منها وروح العصر في المضمون والشكل معا. ثم إعادة تشكيل هذه العناصر داخل قوالب فنية وافدة أو تضمينها كنصوص خلفية داخل الانتاجات المعاصرة.
وتم الاعتماد كثيرا على هذا التراث من أجل تدبير عملية الانتقال من الشفاهة إلى التدوين لأنه يوفر مادة وفيرة من شأنها تيسير المجهودات على المبدعين وتوفير ميادين الاشتغال الأدبي. وبذا نجد عناصر هذا التراث في جل الإبداعات الأدبية على اختلاف أشكالها وأجناسها ومضامينها.

4 ـ ظهور البدايات النقدية:
رافقت ظهور هذا الأدب الجديد إرهاصات حركة نقدية تحاول تتبعه في إطاره العام, وتحاول رصد ملامحه وتوصيفها ومقاربتها بأدوات منهجية حديثة, فساهمت
4
بذلك في الدفع نحو التجديد والتغيير والاغناء, لاسيما وأن الطابع العام لهذه الإرهاصات يتميز بالتنظير ذي البعد التوجيهي.
وتحضر هذه الإرهاصات ـ في الغالب ـ في المناسبات والمحافل التي تخصص لدراسة الأدب الامازيغي أو لأحد فنونه أو أغراضه أو قضاياه, أو تخصص للاحتفاء بالإبداع والمبدعين. كما تحضر ـ من حين لآخر ـ في الصحف الامازيغية أو الكتب الخاصة بالثقافة الامازيغية.
وأهم ما يميز هذه البدايات النقدية أنها تنطلق من نتائج المناهج والتيارات النقدية الحديثة والمعاصرة وتعتمد أدواتها وتصوراتها, وهذا يضغط في اتجاه الإبداع وفق المعايير الحداثية وبطرائق وتقنيات معاصرة, وستظهر نتائج هذا التوجه أكثر حينما تترسخ هذه الإرهاصات وتتحول إلى حركة منظمة ومنتظمة.
وتتميز هذه البدايات النقدية, أيضا, بأنها متابعات آنية لما يتم نشره مما يشعر المبدعين بوجود اهتمام بأعمالهم، وهذا يشجعهم على الاستمرار والبحث عن التجويد والتجديد من ناحية, ويحفزهم على إعادة النظر في التراكم الذي تحقق من قبل من ناحية أخرى.
وتبقى أهم مهمة يمكن أن تقدمها هذه المتابعات النقدية للأدب الامازيغي الجديد هي بلورة تصورات واضحة وشفافة حول تدبير مرحلة الانتقال من حال الشفاهة والتقليد إلى حال التدوين والتجديد انطلاقا من مشروع يمزج بين خصائص التراث وأسس الفكر الحديث. كما تبقى أهم محطة هي التحول إلى حركة نشيطة لها أسسها ومفاهيمها وأهدافها وانتشارها ليكون تأثيرها في تحديث الأدب مقبولا وفعالا.

عموما إن حركية الأدب الامازيغي الجديد قد خلقت لنفسها مداخل أساسية ومتعددة ستمنحها خاصيات الجدة والحداثة, هذه الخاصيات التي بدأت تظهر في مختلف مناحي الإبداع والتي بدأت تتنامى وتتطور. وإنها تحتاج إلى الاهتمام والمتابعة القريبين حتى تصبح تجربة مكتملة العناصر والمقومات.

فؤاد ازروال


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق