الخميس، 24 سبتمبر 2009


المرأة والتراث الغنائي الأمازيغي
فؤاد ازروال



رسمت جل الدراسات التي تناولت واقع المرأة في المجتمعات الأمازيغية التقليدية صورة قاتمة ومأساوية لوضعيتها الاجتماعية ، وضعية تتأسس ـ حسب بورديوـ على آلة رمزية ضخمة تنزع نحو تأييد الهيمنة الذكورية ، التي تعتمد على " التقسيم الجنسي للعمل ، للرجال الفلاحة و الحصاد و الحرب ، وللنساء قطف الزيتون وجمع الحطب ، بناء المجال عمومي للرجال وخصوصي للنساء"[1]
ويؤكد دافيد مونتغمري هارت هذا الواقع ويتوسع فيه أكثر ، فيرى بأن المرأة الأمازيغية تعتني بالأطفال والأسرة وتهيء الطعام ، وتقوم بكل أشغال البيت الشاقة وتشتغل أيضا بالحقل و تساعد الرجل في الحصاد صيفا ، ورغم ذلك فإنها لا تتمتع بحرية التحرك وزيارة الأهل أو استقبالهم وحق الحصول على شيء أو التسوق أو السفر أو العمل[2].
و أكثر، من ذلك ، رأى البعض في المرأة الأمازيغية "امرأة وأتانا /حمارا"، أو " سلعة للتبادل و المتاجرة " ، أو " جارية للذة" ، أو " دابة وخسارة "[3] ...،وقد رسخ هذه الأوصاف المرة والسوداء جل المؤرخين للحقب السابقة من تاريخ المغرب ، وجل الإثنوغرافيين الذين عالجوا موضوع المرأة الأمازيغية في نظام السيبة .

إلا أنه في المجال الفني ، لاسيما الغناء و نظم الشعر ، يجمع أغلب الباحثين أن المرأة الأمازيغية تعد خزانا ضخما للتراث ، و ناقلا حيويا لمفرداته وإنتاجاته عبر الأجيال ، و إليها يرجع الفضل في استمرار هذين الجنسين الفنيين حيين و فاعلين . وفي مجال الإبداع ، اعتبروا أن أغانيها بما تحمله من ألحان وأشعار أكثر صدقا في التعبير عن الأحاسيس و أعمق غورا في البوح الداخلي ، لأنها لا تبدع لتحيى أو تكسب ، بل لأجل أن تترجم أحلامها و أمالها و انكساراتها و ألامها [4].
ويرى برناي أن المرأة العادية بالمجتمع الريفي التقليدي تفوقت حتى على المغني المحترف "أمدياز"[5] ، بل و تمده في كثير من الأحيان بالكلمات والألحان . فالمرأة تبدع أعمالا رائعة تعكس بصورة واضحة الروح الريفية، وتتوجه بها ـ أساساـ إلى جاراتها وصديقاتها دون الجمهور الواسع، إلا أنه بعد ذلك تردده السامعات في المحافل و الأعراس فتصبح مشهورة[6] ، ثم يتلقفها المغنون المحترفون ليذيعوها بين الناس و القبائل في الأفراح و المناسبات.

ومن الطقوس التي كانت معروفة بالريف مثلا ، في تنافس الفتيات من أجل تجويد إبداعهن و إتقانه ، هو ما كان يجري بينهن من حسد شديد أثناء حفلات الأعراس و الختان ،" فعندما تحسد فتيات سلالة ما زميلاتهن من سلالة أخرى ، ويرغبن في التفوق عليهن في مجال الغناء و الرقص ، تقوم امرأة مسنة من هذه السلالة بملء فمها بالملح و زيت الزيتون ، وتبصق الخليط على النار التي تشتعل في وسط الفناء و التي تستعملها الفتيات لتسخين دفوفهن ، هكذا ينشب الخلاف بين الغريمات "[7] ، فيجتهدن في اختيار الأشعار و أداء الألحان ، حتى تقر الحاضرات من الجمهور بالفائزات ، فتغادر الخاسرات الحفل متحسرات يملؤهن شعور قوي بالخيبة والخزي .
ومن غريب ما يتضمنه هذا الطقس الفني الغنائي تلك الإشارة السحرية التي تتجلى في حركة بصق المرأة المسنة بالملح والزيت على النار في علاقة مع المنافسة السلالية ، والتي يمكن تفسيرها على مستويين :
1 - استعارة لأحد التفسيرات الأنتروبولوجية لعلاقة المرأة بالسحر ، يمكن أن نقول بأن المرأة وقد وجدت نفسها لا تشارك في الحياة العامة للمجتمع ، تعود إليها تحت غطاء المنافسة الشعرية باعتبارها نوعا من الدفاع عن العشيرة أو القبيلة [8] .
2 – هده الممارسة تعود إلى مرحلة عميقة من تاريخ الأمازيغ ، تلك المرحلة التي كانت فيها الكهانة والممارسات السحرية وثيقة الصلة بالقول الشعري والأداء الإنشادي ، أي ذلك الوقت الذي كانت فيه الكهانة و الشعر وظيفتين متداخلتين من الناحية الاجتماعية[9].
و قريبا من هذا النوع من المنافسة، ما كان يمارس في الجنوب و الأطلس تحت أسم تماواشت ، وهو فن " يعتبر مجالا للندية بين الجنسين ، ويقتضي أن يتسلح كل جانب بأجود ما لديه ، كما أن أغلب أشعاره تدور حول الألغاز والهجاء و التحدي "[10] ، و عرف العديد من الأسماء النسائية التي لا زالت الذاكرة الشعبية تتذكرها ، و تتغنى بكلماتها و أنغامها التي قارعت بها أكبر الشعراء والمبدعين[11].

ومن تجليات تفوق المرأة في مجال الغناء في الحفلات و الأعراس ، أن كل أسرة بالريف كانت تعتمد على إحدى نسائها في الدفاع عن الأسرة و أفرادها في المناسبات الجماعية التي يحضرها أهل القبيلة و الضيوف من القبائل الأخرى ، و إن تأكدوا أن أسرتهم خلو ممن يمكن أن يقوم بهذه المهمة بنجاح و على أحسن وجه، توسلوا إلى إحدى جاراتهم أو إحدى قريباتهم في ذلك .
ومن أهم المظاهر الدالة ، أيضا ، في الإبداع الغنائي الأمازيغي لدى المرأة ، إصرار العديد من الفنانات المبدعات على إخفاء هويتهن الحقيقية ، كما تروي واقعة الباحث روني أولوغ مع الفنانة مريريدا نايت اعتيق التي بعد أن أملت عليه أشعارها اختفت و لم يظهر لها أثر، وكذلك واقعة الفنانة فريدة الحسيمية التي لا يعرف أحد من هي في الواقع [12] ، رغم أن أغانيها قد صارت على كل لسان و صارت تردد من لدن الصغار و الكبار معا. ويفسر بعض الباحثين هذا المظهر بكونه نكرانا للذات الفردية مساهمة و هبة للذات الجماعية [13]، بينما يرى الآخرون أنها نتاج هيمنة الذهنية الذكورية التقليدية و رسوخ قوة التقاليد الاجتماعية التي تحرم على المرأة الغناء للجمهور العريض الواسع .

ولا بد هنا أن نستحضر الإنتاجات الفنية التي ساهمت بها المرأة الأمازيغية في التنشئة الثقافية و الاجتماعية للأطفال ووظفتها لأجل التربية ، و التي يسميها البعض بشعر الأمومة ، ففي القبائل بالجزائر مثلا هناك شعر الهدهدة ( أزوزنب) الذي هو عبارة عن " تهويدات تنشدها الأمهات بألحان مميزة للصبيان ، غايتهن في ذلك إتعاب الطفل قصد تيسير نومه "[14] وإن كانت موضوعاتها " تنقل أحيانا معاناة الأم و حرقتها الدفينة في كثير من الشجون و الأحزان"[15] , وشعر المداعبة ( اسرقص) وهو الذي تسلي به الأم طفلها بأغنية "تبدو خفيفة بإنشادها و تفتق الفرحة في نفسية الأمهات ، وتمتن أواصر الحنان بين الصبي و آمه "[16].
ويماثل غناء ( ازوزنب) عندنا ما يصطلح عليه ببعض مناطق المغرب ( أسهروري) و ( هلارارو)[17]، و التي هي أيضا ، وإن كان تؤدى بـ" بالصوت المستقيم ، الذي يمضي على وتيرة إيقاعية واحدة"[18] ، فهي تعبر عن ألام غائرة في نفس الأم ( بكاء الأهل ، حرقة فراق أخ مغترب ، التألم من أجل زوج أو قريب مريض ,,,) تختتم غالبا ، بنحيب شجي هادئ عندما يتحقق استسلام الطفل للنوم .

إن الأشكال و الأنواع الغنائية التقليدية التي ساهمت المرأة الأمازيغية في إثرائها و تطويرها كثيرة ومتعددة ، و تتميز بالتنوع الشديد بحسب المناطق و بحسب الأعمار و الوظائف ، وهي في كل ذلك كانت تساهم في إنشاء الخصوصيات الثقافية و الحضارية الأمازيغية ، وفي التطور المجتمعي معرفيا وتنظيميا ، وكانت ـ باعتبار الغناء الأمازيغي فنا شفاهيا شعبيا ، تعبر عن الشوق الجماعي إلى الفرح و الانفعال و التخيل و تواصل المشاعرمن جهة ، ومن جهة ثانية كانت تؤدي وظائف سامية في التربية و الحفاظ على النظام و استقراره واستمراره .










المراجـــــــــع


- إبراهيم أوبلا ، " المرأة الأمازيغية و الندية ( الأطلس الصغير نموذجا)" ، كتاب جماعي "المرأة و الحفاظ على التراث الأمازيغي" ،منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ، أعمال الندوة الوطنية 26و27 يوليوز 2005 ، مطبعة المعارف الجديدة ، الرباط ، ط1 ، 2008.

- إدمون دوطي: السحر و الدين في شمال إفريقيا ، ترجمة فريد الزاهي ، منشورات مرسم ، مطبعة بورقراق ، الرباط.

- دافيد مونغجمري هارت. الفانون العرفي الريفي ،ترجمة محمد الولي ، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ، مطبعة المعارف الجديدة ، الرباط ، ط 1 .

- دافيد مونتغمري هارت ، أيت ورياغل : قبيلة من الريف المغربي ، دراسة إثنوغرافية وتاريخية ، الجزء ا1 ـ ترجمة محمد أونيا و عبد المجيد عزوزي ، و عبد الحميد الرايس ، مطبعة أقواس للنشر ، هولنده ، ط1 ، 2007

- حساين المامون ،. " نحو سوسولوجيا الكشف عن الهيمنة" ، مجلة علامات ، المغرب ، السنة 10 ، العدد 101 ، أبريل 2009

- الحسين ايت باحسين ، " دور المرأة الأمازيغية في الحفاظ على البعد الأمازيغي للهوية المغربية من خلال إبداعاتها" ، كتاب جماعي "المرأة و الحفاظ على التراث الأمازيغي" ،منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ، أعمال الندوة الوطنية 26و27 يوليوز 2005 مطبعة المعارف الجديدة ، الرباط ، ط1 ، 2008

- محمد الدجلاوي ،"الشعر القبائلي التفليدي ( أجناس و أشكال و موضوعات) ، مداخلة في الندوة الدولية : الأجناس الشعرية الأمازيغية التقليدية ، تنظيم المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ،03 سبتمبر 01 أكتوبر 2005 ، الرباط,

- صالح سعد ، الأنا ـ الآخر ، ازدواجية الفن التمثيلي ، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت ، عدد 274 , أكتوير 2001

- Biarnay, « Notes sur les populaires du RIF » , Les Archivés Berbères ,Publication du Comite d études Berbères de rabat, V 1 , Année 1915- 1916 , Edition Frontispice , 2005






[1] - المامون ، حساين . " نحو سوسولوجيا الكشف عن الهيمنة" ، مجلة علامات ، المغرب ، السنة 10 ، العدد 101 ، أبريل 2009 ، ص 22
[2] ـ هارت ، دافيد مونغجمري . الفانون العرفي الريفي ،ترجمة محمد الولي ، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ، مطبعة المعارف الجديدة ، الرباط ،
ط 1 ،ص 27 و 28,
و يستثني هارت في بعض هذه الأمور و القضايا المأساوية المرتبطة بالواقع الاجتماعي للمرأة الأمازيغية ، وضعية المرأة بقبائل الأطلس و بعض قبائل الريف ( بقيوة مثلا) ، حيث يرى أن وضعية المرأة أحسن حالا و تتمتع ببعض الحقوق الأساسية .
[3] - انظر مقال الأستاذ : الحسين ايت باحسين ، " دور المرأة الأمازيغية في الحفاظ على البعد الأمازيغي للهوية المغربية من خلال إبداعاتها" ، كتاب جماعي "المرأة و الحفاظ على التراث الأمازيغي" ،منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ، أعمال الندوة الوطنية 26و27 يوليوز 2005 ، مطبعة المعارف الجديدة ، الرباط ، ط1 ، 2008 ، ص 10 - 13
[4] - Biarnay, « notes sur les puplaires du RIF » , Les Archivés Berbères ,Publication du Comite d études Berbères de rabat, V 1 , Année 1915- 1916 , Edition Frontispice , 2005 , P 32
[5] - يرى هارت أن " الإمذيازن" هم " موسيقيون محترفون ، ويشتغلون في إطار التعاقد ، كالفقيه و الخماس " ، وأنهم بقومون بكراء خدماتهم من غناء و رقص إلى كل راغب ووفق طلباته . انظر
هارت ، مونتغمري هارت ، أيت ورياغل : قبيلة من الريف المغربي ، دراسة إثنوغرافية وتاريخية ، الجزء ا1 ـ ترجمة محمد أونيا و عبد المجيد عزوزي ، و عبد الحميد الرايس ، مطبعة أقواس للنشر ، هولنده ، ط1 ، 2007 ، ص 251
[6]-Biarnay, idim , P 32
[7] - هارت ، أيت ورياغل ، مرجع سابق ،ص 223,
[8] ­ - دوطي ، إدمون : السحر و الدين في شمال إفريقيا ، ترجمة فريد الزاهي ، منشورات مرسم ، مطبعة بورقراق ، الرباط ، ص 30 ,
" ذلك أن المرأة لا تشارك عموما في الشعائر الدينية، ومن ثم تجد نفسها وقد أقصاها الدين من المعاملات المقدسة أو المحرمة ، فتعود إليها تحت غطاء السحر الذي يغدو لديها ضربا من الديانة ذا المستوى الأدنى "
[9] - نفسه ، ص 27
[10] - إبراهيم أوبلا ، " المرأة الأمازيغية و الندية ( الأطلس الصغير نموذجا)" ، كتاب جماعي "المرأة و الحفاظ على التراث الأمازيغي" ،منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ، أعمال الندوة الوطنية 26و27 يوليوز 2005 ، مطبعة المعارف الجديدة ، الرباط ، ط1 ، 2008 ،ص 83 ,
[11] ـ نفسه ، ص 83
ويورد الباحث أسم الفنانة " زينة سالم " كأحد الأسماء التي تحتفظ الذاكرة الجماعية بإقليم طاطا باسمها في هذا المضمار .
[12] - الحسين ايت باحسين ، مرجع سابق ،ص 20 .
[13] - نفسه ، ص 20
[14] - محمد الدجلاوي ،"الشعر القبائلي التقليدي ( أجناس و أشكال و موضوعات) ، مداخلة في الندوة الدولية : الأجناس الشعرية الأمازيغية التقليدية ، تنظيم المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ،03 سبتمبر 01 أكتوبر 2005 ، الرباط
[15] - نفسه
[16] - نفسه
[17] - تحمل اللفظتان ( أسهروري) و ( هلارارو) معنى البكاء و الحزن الشديد (أهروري) و ( رو)
[18] - صالح سعد ، الأنا ـ الآخر ، ازدواجية الفن التمثيلي ، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت ، عدد 274 , أكتوير 2001 ، ص 155 ,

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق